لماذا نحتاج إلى تفكير مختلف؟

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه المعطيات كل يوم، لم يعد التفكير التقليدي كافيًا لفهم العالم أو التعامل معه. فالطريقة التي اعتدنا أن نحل بها المشكلات أو نتخذ بها القرارات، أصبحت مثل طريقٍ واحد لا يؤدي إلا إلى نتائج متوقعة. وهنا يظهر صوت إدوارد دي بونو، مفكر لامع ومبتكر مفهوم “التفكير الجانبي“، ليدعونا إلى إعادة النظر في طريقة استخدامنا لعقولنا.

يرى دي بونو أن “العقل لا يبحث عن الحقيقة، بل يبحث عن الأنماط”، وهذه الأنماط كثيرًا ما تحبسنا في دوائر مكررة. يضرب مثالًا برجل يبحث عن مفاتيحه الضائعة تحت مصباح الشارع، لا لأنه فقدها هناك، بل لأنه المكان الوحيد المضيء. هذا التصرف يختصر حال كثيرين ممن يتمسكون بالوضوح، حتى لو كان غير مجدٍ.

عندنا في ثقافتنا مثل يقول: “اللي ما يعرف الصقر يشويه”، وهذا المثل ينطبق على من يرفض التفكير المختلف فقط لأنه غير مألوف. لا يدعو دي بونو إلى قلب الطاولة، بل إلى تحريكها قليلًا لرؤية الزوايا المخفية. فهو لا يهاجم المنطق هنا، بل يكمل نواقصه بأسلوب جديد.

الكتاب يطرح رؤية مفادها أن الإبداع ليس حالة نادرة، ولا هو موهبة خاصة بقلة من الناس. بل هو مهارة يمكن تعلّمها وتطويرها، تمامًا كما يتعلم الإنسان الكتابة أو ركوب الدراجة. ولذلك، يقترح أدوات ذكية تساعد على تجاوز القيود الذهنية التي صنعتها العادات والنظم الجامدة.

في مقدمة الكتاب، يذكر دي بونو أن معظم الابتكارات العظيمة لم تكن نتاج تفكير منطقي فقط، بل جاءت نتيجة خرق غير متوقّع لنمط مألوف. يشبّه ذلك بحفرة صغيرة على جانب الطريق، قد تبدو تافهة، لكنها أحيانًا تكشف عن منجم ذهب.

من هنا تبدأ رحلة التفكير الإبداعي: من لحظة شك في المألوف، ومن شجاعة التجربة دون ضمانات. يفتح لنا دي بونو بابًا واسعًا لنتعلم كيف نرى الأمور كما لم نرها من قبل.

ما هو التفكير الإبداعي؟

التفكير الإبداعي هو أن تكسر الحواجز الذهنية، أن ترى ما لا يراه الآخرون، وأن تسأل أسئلة مختلفة بدلًا من تكرار نفس الإجابات القديمة. هو ببساطة أن تخرج عن المألوف وتفتح الباب لأفكار جديدة قد تبدو غريبة في البداية، لكنها تحمل حلولًا مبتكرة.

إدوارد دي بونو لا يربط الإبداع بالعبقرية أو الموهبة الفطرية، بل يراه مهارة يمكن أن يتعلمها أي شخص، مثل تعلُّم ركوب الدراجة أو العزف على آلة موسيقية. ومن هنا جاءت فكرته الأشهر: “التفكير الجانبي”.

بينما يسير التفكير العادي – أو كما يسميه دي بونو “التفكير العمودي” – في خط مستقيم، خطوة بخطوة، فإن التفكير الجانبي يقفز، يلتف، يجرّب طرقًا جديدة دون أن يلتزم بالسير المعتاد. يشبه الأمر محاولة الخروج من متاهة: التفكير التقليدي يبحث عن الطريق الوحيد، بينما التفكير الجانبي يخلق بابًا جديدًا في الجدار.

يضرب دي بونو مثالًا بسيطًا:
لو أن هناك زجاجة بها عملة معدنية، وفتحتها أضيق من أن تخرج منها العملة. التفكير التقليدي سيحاول سحب العملة أو كسر الزجاجة. أما التفكير الجانبي فربما يقترح قلب الزجاجة في ماء مغلي ليتمدّد الهواء ويدفع العملة للخارج. نفس المشكلة، لكن من زاوية مختلفة تمامًا.

إذن التفكير الإبداعي، ليس سحرًا ولا شيئًا غامضًا. بل هو ببساطة تغيير في طريقة النظر، وجرأة على طرح أفكار غير مألوفة. وهذا ما يجعل كل مشكلة، مهما كانت معقدة، فرصة لاكتشاف جديد.

التفكير العمودي مقابل التفكير الجانبي

يميز إدوارد دي بونو بين نوعين من التفكير: التفكير العمودي والتفكير الجانبي، ولكل منهما طريقته في معالجة الأمور.

أولًا: التفكير العمودي

هذا هو النوع الذي تعودنا عليه منذ المدرسة. تفكير يعتمد على المنطق، يسير خطوة بخطوة، لا يتجاوز الحدود ولا يشكّك في القواعد. يبدأ من فكرة ثم يبني عليها، كمن يصعد سلّمًا درجة درجة دون أن يحيد عن المسار.

التفكير العمودي مفيد جدًا في العمليات الحسابية، في القوانين، وفي حل المسائل التي لها إجابة واحدة صحيحة. لكنه محدود في التعامل مع المشكلات المعقدة التي تحتاج إلى رؤى غير تقليدية.

ثانيًا: التفكير الجانبي

هنا تأتي فلسفة دي بونو. التفكير الجانبي لا يسير على خط مستقيم، بل يقفز إلى جوانب الفكرة، يطرح أسئلة غريبة، يتجاهل المنطق أحيانًا ليكتشف مسارات جديدة. هو تفكير أشبه بمن يحاول فتح باب مغلق لا بالمفتاح، بل بإيجاد طريق آخر لا يحتاج إلى باب أساسًا!

مثلًا، في موقف يتطلب إيجاد حل سريع لمشكلة في العمل، سيبدأ المفكر العمودي بتحليل السبب، ثم ينتقل تدريجيًا إلى الحلول المنطقية. بينما قد يقترح المفكر الجانبي تغيير النظام بأكمله لتفادي المشكلة من جذورها، حتى لو بدا اقتراحه غير واقعي في البداية.

يوضّح دي بونو أن المشكلة ليست في التفكير العمودي بحد ذاته، بل في الاعتماد عليه وحده. فالعقل مثل السائق: لا يكفي أن يعرف الطريق، بل يحتاج أحيانًا إلى الخروج من المسار لتفادي الزحام أو اكتشاف طريق أقصر.

نقول ثقافتنا: “اللي يمشي ورا القطيع ما يشوف غير الغبار”. وهذا بالضبط ما يحذر منه دي بونو. فالبقاء على الطريق نفسه قد يمنعك من رؤية فرص جديدة أو حلول غير تقليدية.

التفكير الجانبي لا يلغي المنطق، بل يكمله. هو طريقة لتوليد أفكار لا يمكن الوصول إليها بمجرد اتباع الخطوات المألوفة. وبهذا يكون المفتاح الحقيقي للإبداع.

أدوات دي بونو لتحفيز الإبداع

إبداعك لا يحتاج إلى وحي سماوي، بل إلى أدوات تشغل عقلك بطريقة مختلفة. إدوارد دي بونو لا يكتفي بالنظريات، بل يمنحك أدوات عملية يمكنك استخدامها لتوليد أفكار جديدة، وتحطيم أنماط التفكير الجامدة.

1. القبعات الست للتفكير

هذه أشهر أدوات دي بونو، وهي طريقة ذكية لتقسيم أنماط التفكير إلى ست “قبعات” ملونة، كل واحدة منها تمثل زاوية نظر مختلفة:

  • القبعة البيضاء: تركّز على المعلومات والحقائق فقط.
  • القبعة الحمراء: تعبّر عن المشاعر والحدس دون تبرير.
  • القبعة السوداء: تنظر للسلبيات والمخاطر.
  • القبعة الصفراء: تبحث عن الإيجابيات والفوائد.
  • القبعة الخضراء: تمثل الإبداع والتفكير الحرّ.
  • القبعة الزرقاء: تنظّم بقية القبعات وتراقب سير النقاش.

فكرة القبعات تساعدك على الخروج من فوضى التفكير العشوائي، وتجبرك على تبنّي وجهات نظر لم تكن تراها من قبل.

2. التحفيز العشوائي

عندما تشعر بأن أفكارك متكررة، استخدم كلمة أو صورة عشوائية لا علاقة لها بالمشكلة، ودعها تقودك لفكرة غير متوقعة. مثلًا، لو كنت تحاول تطوير منتج، وخطرت لك كلمة “عاصفة”، قد تلهمك بتصميم قوي يتحمّل الظروف القاسية. قد يبدو غريبًا، لكنه يعمل!

يرى دي بونو أن العقل يحب الروابط، حتى بين أشياء غير منطقية، ومن هنا تولد الأفكار الجديدة.

3. طرح الأسئلة بدلًا من الإجابات

بدلًا من البحث عن الحل الصحيح فقط، اسأل:
– هل يمكننا قلب المشكلة؟
– ما الذي لم نجربه بعد؟
– ماذا لو لم تكن هذه المشكلة مشكلة أصلًا؟

الأسئلة تحفّز العقل على التفكير، بينما الإجابات تغلق الباب غالبًا. كما نقول في أمثالنا: “اسأل مجرّب ولا تسأل حكيم”… ودي بونو يضيف: “اسأل حتى الحكيم أسئلة لم يسمعها من قبل”.

هذه الأدوات يمكن استخدامها في حياتك اليومية: في العمل، في حل المشكلات العائلية، في اتخاذ قرار مهم، أو حتى في النقاشات مع الأصدقاء. الفكرة هنا … أن تدفع عقلك ليجرب ما لم يعتد عليه.

كيف نطبّق التفكير الإبداعي في حياتنا؟

التفكير الإبداعي ليس حكرًا على المخترعين أو الفنانين، بل مهارة يمكن للجميع استخدامها. سواء كنت طالبًا تبحث عن طريقة جديدة للمذاكرة، موظفًا تواجه مشكل%A

Click to rate this post!
[Total: 0 Average: 0]