ما الذي يجمع بين خاطف رهائن ومديرك في العمل؟

تخيل أنك في مواجهة لص يسطو على بنك، أو تتفاوض على حياة رهينة عبر الهاتف مع إرهابيين. ما هي الأدوات التي ستستخدمها؟ قد تظن أن هذه المهارات مخصصة فقط لعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، لكن ماذا لو كانت هي نفسها الأدوات التي تحتاجها تمامًا لطلب زيادة في الراتب، أو شراء سيارة، أو حتى إقناع طفلك بالذهاب إلى النوم؟

في كتابه الثوري “لا تقسم الفرق أبدًا“، يأخذنا كريس فوس، كبير مفاوضي الرهائن الدوليين السابق في الـ FBI، في رحلة إلى عالم التفاوض عالي المخاطر، ليكشف عن حقيقة صادمة: التفاوض ليس معركة منطق، بل هو فن وعلم الذكاء العاطفي. ينسف فوس الأفكار التقليدية حول التسوية والحلول الوسطى، ويقدم لنا بدلًا منها مجموعة من الأدوات التي تم اختبارها في الميدان، والتي تعتمد على فهم عميق للنفس البشرية.

هذا الملخص لن يعرض لك الأفكار فحسب، بل سيغمرك في القصص الحقيقية التي شكلتها، ويمنحك استراتيجيات عملية لتغيير طريقة تفاوضك إلى الأبد.

التعاطف التكتيكي – كن مرآةً، لا خصمًا

إن حجر الزاوية في فلسفة فوس هو “التعاطف التكتيكي”، وهو مفهوم يتجاوز بكثير التعاطف التقليدي الذي يعني “وضع نفسك مكان الآخر”. التعاطف التكتيكي هو فهم وإدراك واعٍ لوجهة نظر الطرف الآخر وعالمه العاطفي، ثم استخدام هذا الفهم للتأثير على قراراته. إنه ليس موافقة، بل هو إدراك.

الأداة الأساسية لتحقيق ذلك هي “المطابقة”، وهي تقنية تبدو بسيطة بشكل خادع لكنها قوية بشكل مذهل. تتضمن التقنية تكرار آخر ثلاث كلمات (أو الكلمات الجوهرية) التي قالها محدثك بنبرة استفهامية هادئة. هذا الفعل البسيط يخترق الدفاعات العقلانية ويحفز دافعًا عصبيًا فطريًا لدى الإنسان للتواصل والتوضيح.

عندما تسمع كلماتك تعود إليك، تشعر بأن الطرف الآخر يستمع بانتباه، مما يجعلك تشعر بالأمان والرغبة في الاستفاضة، كاشفًا بذلك عن دوافع ومعلومات لم تكن لتشاركها في الظروف العادية. إنه يبني علاقة فورية دون أن تضطر إلى الموافقة على أي شيء.

مشهد من بروكلين وقوة ثلاث كلمات

في عام 1993، حاصر رجال الشرطة لصين يسطوان على بنك “تشيس مانهاتن” في بروكلين. كانت المفاوضات متوقفة تمامًا، والوضع يزداد توترًا مع كل دقيقة تمر.

أحد اللصوص، الذي كان يتحدث عبر الهاتف، بدأ يفقد صبره ويصرخ بمطالبه. في لحظة يأس، صرخ قائلًا: “نحن بحاجة إلى سيارة للهروب الآن!”. في مثل هذه المواقف، يكون الرد التقليدي هو الرفض المباشر (“لا يمكننا تلبية هذا الطلب”) أو المراوغة، وكلاهما يزيد من حدة الموقف. لكن المفاوض المدرب على أساليب فوس، بدلًا من ذلك، استخدم تقنية المطابقة بهدوء تام.

قال بنبرة استفهامية فضولية: “…سيارة هروب؟”. ساد صمت مفاجئ على الخط. لقد كسر هذا الرد غير المتوقع نمط المواجهة. ثم بدأ اللص، الذي كان عدائيًا قبل لحظات، في شرح منطقه بالتفصيل، وكيف أن خطته كانت مثالية، وكيف أنهم سيحتاجون إلى سيارة ذات مواصفات معينة.

خلال هذا المونولوج غير المتوقع، كشف عن معلومات حيوية حول عدد الرهائن، ودوافعه هو وشريكه، وحتى بعض التفاصيل عن خطتهم. تلك الكلمات الثلاث البسيطة لم تمنح فريق الـ FBI وقتًا ثمينًا فحسب، بل حولت المواجهة إلى حوار كشف عن نقاط ضعف الخصم.

تطبيق المرآة في حياتك اليومية

هذه التقنية ليست حكرًا على مفاوضات الرهائن. إنها أداة يومية قوية. في المرة القادمة التي تكون فيها في اجتماع ويقول عميلك: “السعر الذي قدمته يتجاوز ميزانيتنا المخصصة لهذا المشروع”، قاوم رغبتك في الدفاع عن السعر أو تقديم خصم فوري.

بدلًا من ذلك، انحنِ قليلًا إلى الأمام، وانظر إليه باهتمام، وقل بهدوء: “…ميزانيتكم المخصصة؟”. ستندهش من كيفية شعوره بالحاجة إلى شرح تفاصيل الميزانية، أو القيود التي يواجهها، أو الأولويات الأخرى التي يتنافس عليها المشروع. قد تكتشف أن “الميزانية” ليست المشكلة الحقيقية، بل ربما هي عدم اقتناع صانع قرار آخر بقيمة المشروع.

استخدمها مع شريك حياتك عندما يقول: “أشعر أنك لا تستمع إليّ أبدًا”. رد بهدوء: “…لا أستمع إليكِ أبدًا؟”. هذا سيفتح الباب أمامه ليشرح مشاعره الحقيقية بدلًا من الانغلاق خلف اتهام عام.

تسمية المشاعر – نزع فتيل القنبلة الموقوتة

المشاعر السلبية – الخوف، الشك، الغضب، عدم الثقة – هي السم الذي يقتل أي صفقة. عندما يكون الشخص غارقًا في هذه المشاعر، فإن اللوزة الدماغية، وهي مركز الاستجابات العاطفية في الدماغ، تكون في حالة تأهب قصوى، مما يغلق فعليًا قشرة الفص الجبهي المسؤولة عن التفكير العقلاني وحل المشكلات.

محاولة استخدام المنطق مع شخص في هذه الحالة كمن يحاول إطفاء حريق بالبنزين. هنا يأتي دور “تسمية المشاعر”. إنها عملية تحديد مشاعر الطرف الآخر والتعبير عنها بصوت عالٍ في شكل ملاحظة، وليس اتهامًا. تبدأ عبارات التسمية عادة بـ “يبدو أنك تشعر بـ…” أو “يبدو أن…”. عندما تسمي شعورًا سلبيًا، يحدث شيئان:

  1. أولًا، يشعر الطرف الآخر بالتحقق والفهم، مما يقلل من حدة الشعور.
  2. ثانيًا، هذا الفعل ينشط قشرة الفص الجبهي لديه، مما يعيده إلى حالة أكثر عقلانية. إنها بمثابة ضغط على زر “إيقاف مؤقت” للعاصفة العاطفية.

مفاوضات الحياة والموت في الفلبين

كان فوس وفريقه يتفاوضون مع جماعة متمردة في الفلبين كانت تحتجز سائحًا أمريكيًا. كانت المحادثات متوترة ومتعثرة لأسابيع. شعر فريق فوس أن الخاطفين لديهم شعور عميق بعدم الاحترام، وأن المفاوضين السابقين كانوا يعاملونهم كأشخاص بسطاء وغير مهمين، مما جعلهم أكثر عنادًا. كان هذا شعورًا خفيًا يقف عائقًا أمام أي تقدم.

في بداية المكالمة التالية، قرر فوس المخاطرة وتسمية هذا الشعور مباشرةً. بدأ المحادثة بقوله بهدوء: “يبدو أنكم تشعرون أننا لا نعاملكم بالاحترام الكافي”. ساد صمت طويل وموتر على الطرف الآخر من الخط. كانت تلك لحظة حاسمة، كان من الممكن أن ينفجر الخاطف غضبًا. لكن بعد الصمت، جاء صوت زعيم الخاطفين بنبرة هادئة ومختلفة تمامًا: “نعم، هذا صحيح. لقد كنتم تتحدثون إلينا وكأننا أطفال”.

لقد تم نزع فتيل التوتر بالكامل. بمجرد الاعتراف بمشاعرهم والتحقق من صحتها، تحولت ديناميكية الحوار من العداء والمقاومة إلى بداية حوار بنّاء أدى في النهاية إلى إطلاق سراح الرهينة.

أداة لتهدئة العواصف في كل مكان

هذه الأداة لا تقدر بثمن في الحياة اليومية. إذا كان عميلك غاضبًا بسبب تأخير في التسليم، لا تبدأ بالتبريرات والأعذار. ابدأ بتسمية مشاعره: “سيد أحمد، يبدو أنك محبط للغاية وتشعر بخيبة أمل بسبب هذا التأخير، وأنا أتفهم ذلك تمامًا”.

هذا التحقق من صحة مشاعره سيقلل من حدة غضبه بنسبة 50% على الأقل، ويجعله أكثر استعدادًا للاستماع إلى الحل الذي ستقدمه. استخدمها في الخلافات الشخصية. بدلًا من قول “لا داعي للغضب”، جرب “يبدو أنك تشعرين بالأذى حقًا بسبب ما قلته”. التسمية لا تعني الموافقة على سبب الشعور، بل تعني الاعتراف بوجوده، وهذا هو كل ما يحتاجه معظم الناس للمضي قدمًا.

قوة “لا” – الكلمة التي تفتح الأبواب، لا تغلقها

في ثقافتنا، تعلمنا أن نسعى دائمًا للحصول على “نعم” وأن نتجنب “لا” بأي ثمن. نعتبر “لا” فشلًا ونهاية للمحادثة. يعلمنا فوس أن هذه الفكرة خاطئة تمامًا ومدمرة للتفاوض. في الواقع، كلمة “لا” هي بداية التفاوض الحقيقي، وليست نهايته. لماذا؟ لأن “نعم” غالبًا ما تكون كلمة ضعيفة.

يشير فوس إلى وجود ثلاثة أنواع من “نعم”: “نعم” المزيفة (عندما يريد الشخص التخلص منك)، و”نعم” التأكيدية (عندما يجيب على سؤال بسيط)، و”نعم” الالتزامية (وهي النوع الوحيد الذي له قيمة). إن الضغط من أجل الحصول على “نعم” مبكرة غالبًا ما يؤدي إلى “نعم” مزيفة، مما يمنحك شعورًا زائفًا بالتقدم.

على النقيض من ذلك، فإن كلمة “لا” توفر شعورًا هائلاً بالأمان والسيطرة للشخص الذي يقولها. عندما تسمح لشخص ما بقول “لا”، فإنك تمنحه الفرصة لتحديد حدوده بوضوح، وتؤكد له أنه يملك القرار، وهذا يجعله يشعر بالراحة والاسترخاء، وبالتالي يصبح أكثر انفتاحًا على الاستماع إلى ما لديك لتقوله بعد ذلك.

“لا” لا تعني “مستحيل”، بل تعني غالبًا “أنا غير مرتاح لهذا الآن”، أو “لست مستعدًا للالتزام”، أو “أحتاج إلى مزيد من المعلومات”.

سيكولوجية البريد الإلكتروني

يقدم فوس مثالًا بسيطًا ولكنه عميق من عالم التواصل اليومي: رسائل البريد الإلكتروني. لنفترض أنك تريد تحديد موعد مع شخص مهم ومشغول. الطريقة التقليدية هي كتابة: “هل لديك 15 دقيقة للحديث الأسبوع القادم؟”. هذا السؤال يضع الشخص في موقف حرج؛ فهو يدفع نحو “نعم” قد تكون التزامًا غير مرغوب فيه، مما يجعله يميل إلى تجاهل الرسالة تمامًا.

يقترح فوس قلب المعادلة وصياغة السؤال بطريقة تستدعي “لا” إيجابية. جرب أن تكتب: “هل ستكون فكرة سيئة تمامًا أن نتحدث لمدة 15 دقيقة الأسبوع القادم؟” أو “هل أنت ضد تخصيص بضع دقائق لمناقشة هذا الأمر؟”. الإجابة بـ “لا” على هذا السؤال تعني في الواقع “نعم، يمكننا التحدث”، لكنها تأتي من مكان يشعر فيه الطرف الآخر بالسيطرة الكاملة والحرية. لقد قال “لا”، وشعر بالقوة، لكنه وافق على طلبك.

هذه التقنية البسيطة تخفض بشكل كبير من دفاعات الشخص وتزيد من معدلات الاستجابة بشكل كبير.

الأثر – صياغة أسئلة للحصول على “لا” إيجابية

ابدأ في دمج هذه الاستراتيجية في تفاعلاتك.

  • في المبيعات، بدلًا من سؤال العميل: “هل أنت مستعد للشراء؟”، جرب أن تسأل: “هل قررتم التخلي عن هذه الفرصة لتحسين كفاءتكم؟”.
  • في العمل، عندما تريد إقناع زميلك بمساعدتك، لا تسأل: “هل يمكنك مساعدتي في هذا التقرير؟”. جرب أن تسأل: “هل ستكون ضد أن تلقي نظرة سريعة على هذه الفقرة؟”.
  • حتى في المنزل، بدلًا من سؤال ابنك المراهق: “هل يمكنك تنظيف غرفتك الآن؟”، جرب: “هل ستكون كارثة لو قمت بترتيب سريرك قبل الخروج؟”.

السماح بقول “لا” يزيل الضغط ويحول الطلب من أمر إلى خيار، مما يزيد بشكل كبير من احتمالية التعاون.

“هذا صحيح” – لحظة الاختراق الذهبية

في عالم التفاوض، هناك فرق شاسع، كالفجوة بين الليل والنهار، بين أن يقول لك الطرف الآخر “أنت على حق” وأن يقول “هذا صحيح”.

“أنت على حق” غالبًا ما تكون استراتيجية دفاعية، طريقة مهذبة يستخدمها الناس ليقولوا “أتفق معك شكليًا حتى تتوقف عن محاولة إقناعي وتتركني وشأني”. إنها نهاية مصطنعة للحوار. أما “هذا صحيح” فهي استجابة مختلفة تمامًا؛ إنها استجابة عميقة وعاطفية، إنها لحظة تجلٍّ.

تحدث هذه اللحظة عندما يشعر الطرف الآخر بأنك لم تسمع كلماته فحسب، بل فهمت عالمه تمامًا، وأدركت مشاعره، واستوعبت منطقه من الداخل. الوصول إلى هذه اللحظة هو نقطة التحول في أي مفاوضات، لأنها اللحظة التي تكتسب فيها ثقته الكاملة وتتحول من خصم إلى حليف.

لتحقيق ذلك، يجب عليك استخدام “الملخص”، وهو تجميع لكل ما قاله الطرف الآخر، بما في ذلك تسمية مشاعره ودوافعه، وتقديمه له بطريقة تظهر فهمك العميق لموقفه.

وهنا يكمن جوهر فلسفة فوس، في أحد اقتباساته:

الهدف هو الوصول إلى “هذا صحيح”، وليس “أنت على حق”.

يجسد هذا الاقتباس التحول من التفاوض القائم على الجدال إلى التفاوض القائم على الفهم. إنه يلخص الفارق بين الفوز في نقاش وخلق اختراق حقيقي يؤدي إلى اتفاق.

قصة الطالب المحبط في هارفارد

خلال إحدى دوراته التدريبية في جامعة هارفارد، كان أحد الطلاب يواجه مفاوضات عمل معقدة ومحبطة للغاية. كان يشعر بأن الطرف الآخر غير عقلاني وعنيد. استمع فوس إليه طويلًا وهو يروي تفاصيل قضيته المليئة بالغضب والإحباط. بعد أن انتهى الطالب، لم يقدم فوس أي نصيحة. بدلًا من ذلك، قام بتقديم ملخص شامل للموقف من وجهة نظر الطالب.

قال شيئًا مثل: “إذًا، يبدو أنك تشعر بأنك عملت بجد وبذلت كل ما في وسعك، لكن الطرف الآخر لا يقدر ذلك على الإطلاق، بل ويغير مطالبه باستمرار، مما يجعلك تشعر بأنك محاصر وبلا أي خيارات جيدة”.

لخص الوضع بدقة شديدة، ليس فقط الحقائق، بل المشاعر الكامنة وراءها. نظر إليه الطالب بصمت للحظة، ثم قال بهدوء وتأثر واضحين: “هذا صحيح”. في تلك اللحظة، تغير كل شيء. لقد شعر الطالب بالراحة والفهم العميق، وتحول فوس في عينيه من مجرد مدرب إلى حليف موثوق، وأصبح الطالب منفتحًا تمامًا لقبول الاستراتيجيات والحلول التي قدمها فوس بعد ذلك.

الأثر – خارطة الطريق إلى “هذا صحيح”

في أي خلاف أو مفاوضات، اتبع هذه الخطوات للوصول إلى لحظة “هذا صحيح”:

  1. استمع بفعالية: ركز بنسبة 100% على ما يقوله الطرف الآخر، وليس على ما ستقوله أنت بعد ذلك.
  2. استخدم المطابقة وتسمية المشاعر بشكل دوري: “يبدو أنك تشعر بـ…”، “…صعب للغاية؟”.
  3. قم ببناء ملخص: بعد فترة من الاستماع، توقف وقدم ملخصًا يبدأ بـ: “دعني أتأكد من أنني أفهم بشكل صحيح. ما أسمعه هو أن…” أو “إذًا، يبدو أن الموقف بالنسبة لك هو…”.
  4. استمر في التعديل: قد لا تنجح من المرة الأولى. استمع إلى تصحيحاتهم وعدّل ملخصك حتى تسمع تلك الكلمتين السحريتين: “هذا صحيح”. عندها فقط، يمكنك البدء في مناقشة الحلول.

الأسئلة المُعايرة – امنحهم وهم السيطرة

الأسئلة المُعايرة هي أسلحة دقيقة في ترسانة المفاوض. إنها أسئلة مفتوحة مصممة بعناية لتحقيق عدة أهداف في وقت واحد: تجنب إثارة موقف دفاعي، قول “لا” دون استخدام الكلمة، وجعل الطرف الآخر يفكر في حل مشاكلك نيابة عنك.

هذه الأسئلة تبدأ عادةً بـ “كيف” أو “ماذا”. على سبيل المثال، سؤال مثل “لماذا فعلت ذلك؟” غالبًا ما يبدو اتهاميًا ويجعل الناس في موقف دفاعي. لكن سؤالًا مثل “ما الذي كان يحاول هذا الإجراء تحقيقه؟” هو سؤال استكشافي يدعو إلى التفكير.

الأسئلة المُعايرة تضع عبء إيجاد الحل على الطرف الآخر، مما يمنحه شعورًا بالسيطرة (“وهم السيطرة”)، بينما أنت في الواقع توجه الحوار بهدوء نحو أهدافك. إنها تجبر خصمك على التوقف، والتفكير، والنظر في المشكلة من وجهة نظرك.

أحد أقوى الأمثلة على سؤال مُعاير، والذي يعتبر بمثابة “لا” مهذبة وقوية، هو:

كيف يُفترض بي أن أفعل ذلك؟

هذا السؤال ليس مجرد شكوى، بل هو أداة تفاوضية فعالة. إنه “لا” مهذبة، تحول المواجهة إلى تعاون، وتجبر الطرف الآخر على التفكير في قيودك ومساعدتك في إيجاد حل.

التفاوض على الإيجار (قصة)

تخيل أنك مستأجر، وقد تلقيت إشعارًا من مالك العقار يخبرك فيه أنه سيرفع الإيجار الشهري بمقدار 200 دولار. الردود الغريزية قد تكون الغضب (“هذا غير عادل!”)، أو الرفض المباشر (“لا يمكنني دفع هذا المبلغ”)، أو القبول على مضض.

كل هذه الردود تضعك في موقف ضعيف. يقترح فوس استخدام سؤال مُعاير. بدلًا من ذلك، يمكنك أن ترد بهدوء واحترام، معترفًا بطلبه: “شكرًا لإعلامي. إنها زيادة كبيرة بالفعل. كيف يُفترض بي أن أتمكن من تدبير هذه الزيادة في ظل ميزانيتي الحالية؟”.

هذا السؤال يغير اللعبة تمامًا. أنت لم تقل “لا”، ولم تهاجمه. لقد حولت المشكلة من “مشكلتك أنت” إلى “مشكلتنا معًا”. أنت تدعوه بلطف إلى عالمك المالي وتطلب منه المساعدة في حل اللغز. هذا يضع المالك في موقف المتعاون بدلًا من الخصم، وقد يدفعه إلى التفكير في حلول بديلة لم تكن مطروحة، مثل زيادة تدريجية، أو تمديد عقد الإيجار مقابل زيادة أقل، أو التنازل عن الزيادة تمامًا.

الأثر – تحويل المواجهات إلى تعاون

استخدم الأسئلة المُعايرة لتحويل أي موقف صعب إلى فرصة للتعاون.

  • في العمل: عندما يطلب منك مديرك إنجاز مهمة ضخمة في وقت غير واقعي، لا تقل “هذا مستحيل”. اسأل: “أتفهم أهمية هذه المهمة. بالنظر إلى الموارد المتاحة، ما هي الجوانب التي تقترح أن نركز عليها لتحقيق أفضل نتيجة ممكنة في هذا الإطار الزمني؟”.
  • في المبيعات: عندما يقول العميل “عرضكم مكلف للغاية”، لا تدافع عن السعر. اسأل: “أتفهم مخاوفك بشأن الميزانية. كيف يمكننا صياغة هذا العرض ليتناسب مع ما تعتبرونه قيمة عادلة؟”.
  • في العلاقات: عندما يطلب منك شريكك طلبًا تشعر أنه غير معقول، بدلًا من الرفض، اسأل: “أريد أن أساعدك. كيف يمكننا تحقيق ذلك مع الأخذ في الاعتبار التزاماتنا الأخرى؟”.

تغيير الواقع – فن الإرساء والمساومة الذكية

عندما تصل إلى المرحلة النهائية من التفاوض — مرحلة المساومة وتقديم العروض – يجب أن تنتقل من بناء العلاقة إلى تشكيل تصور الطرف الآخر للواقع المالي. هنا، يستغل فوس مجموعة من المبادئ النفسية الراسخة.

أولًا، “الإرساء”، حيث يتأثر حكم الناس بشدة بالرقم الأول الذي يسمعونه، والذي يصبح “المرساة” التي تدور حولها بقية المفاوضات.

ثانيًا، “تجنب الخسارة”، وهو المبدأ الذي أثبته دانيال كانيمان، والذي ينص على أن الخوف من خسارة شيء ما هو دافع أقوى مرتين من الرغبة في كسب نفس الشيء.

لذلك، يجب صياغة عروضك بطريقة تجعل الطرف الآخر يشعر بأنه سيخسر شيئًا ثمينًا إذا لم يقبل. يدمج فوس هذه المبادئ في نظام مساومة منظم يسمى “نظام أكرمان”. وهو يتضمن خطوات محددة:

  1. حدد سعرك المستهدف (الذي تريد دفعه أو الحصول عليه).
  2. ابدأ بعرض أولي متطرف (مرساة)، حوالي 65% من سعرك المستهدف.
  3. خطط لثلاثة تنازلات متتالية ذات قيم متناقصة (مثل زيادة 1000، ثم 600، ثم 300). هذا يعطي انطباعًا بأنك تقترب من حدك الأقصى.
  4. استخدم أرقامًا دقيقة وغير دائرية (مثل 4,870 دولارًا بدلًا من 5,000 دولار)، لأنها تبدو مدروسة ومبنية على حسابات دقيقة، مما يجعلها تبدو أقل قابلية للتفاوض.
  5. في العرض النهائي، قدم عنصرًا غير نقدي لإظهار أنك استنفدت كل مرونتك المالية.

وهنا تظهر الفلسفة الأساسية للكتاب بأكملها في أوجها:

لا تقسم الفرق أبدًا.

هذا ليس مجرد عنوان، بل هو عقلية. يوضح فوس أن تقسيم الفرق هو حل كسول يقبله الهواة ويؤدي غالبًا إلى نتيجة سيئة لكلا الطرفين. يجب دائمًا السعي إلى صفقة أفضل من خلال التفاوض الذكي القائم على القيمة الحقيقية والمعلومات المخفية.

الفدية في الإكوادور

في مفاوضات اختطاف معقدة وعالية المخاطر في الإكوادور، طلب الخاطفون فدية بملايين الدولارات. كان فريق فوس يواجه ضغطًا هائلاً. بدلًا من البدء بعرض معقول، طبقوا نظام أكرمان.

بدأوا بعرض فدية منخفض بشكل صادم (مرساة منخفضة للغاية)، وهو ما قوبل بالغضب والسخرية من الخاطفين. لكن المرساة كانت قد ألقيت. على مدار أيام طويلة ومكالمات متوترة، بدأ فريق فوس في تقديم زيادات طفيفة، كل منها مبرر بصعوبة بالغة (“لقد بذلنا كل ما في وسعنا للحصول على هذا المبلغ الإضافي”، “هذا كل ما تمكنا من جمعه”). كانت الزيادات متناقصة وغير منتظمة.

هذا الأسلوب المدروس جعل الخاطفين يشعرون بأنهم يخوضون معركة شرسة وينتزعون كل دولار ممكن من الفريق. في النهاية، عندما قدم فوس عرضه النهائي (الذي كان ضمن النطاق الذي خطط له منذ البداية)، قبله الخاطفون وهم يشعرون بأنهم حققوا أقصى ما يمكنهم الحصول عليه. لقد تم توجيههم ببراعة نحو رقم فوس، بينما كانوا يعتقدون أنهم هم من يسيطرون على الموقف.

المساومة كسلاح علمي

استخدم نظام أكرمان في مفاوضاتك التالية. عند شراء سيارة مستعملة معروضة بسعر 15,000 دولار، وهدفك هو 12,000 دولار:

  1. السعر المستهدف: 12,000 دولار.
  2. العرض الأول (المرساة): 65% من 12,000 = 7,800 دولار.
  3. التنازلات المخططة:
    • الزيادة الأولى (إلى 85%): 10,200 دولار.
    • الزيادة الثانية (إلى 95%): 11,400 دولار.
    • الزيادة النهائية (100%): 12,000 دولار، أو رقم دقيق مثل 11,970 دولار.

استخدم لغة تظهر الألم مع كل تنازل: “هذا أقصى ما يمكنني الوصول إليه”، “أنا أتجاوز ميزانيتي هنا”. هذا النظام يحول المساومة من لعبة تخمين عشوائية إلى استراتيجية نفسية محسوبة تزيد بشكل كبير من فرصك في الوصول إلى هدفك.

في الختام – التفاوض ليس معركة، بل فن الاكتشاف

في نهاية المطاف، يعلمنا كريس فوس أن التفاوض الناجح لا يتعلق بالسيطرة أو الغلبة أو التلاعب، بل يتعلق بالاستماع العميق والفهم الحقيقي.

الأدوات التي يقدمها – من المطابقة وتسمية المشاعر إلى الأسئلة المُعايرة – ليست مجرد حيل، بل هي وسائل لفتح قنوات التواصل الإنساني، وكشف الاحتياجات الخفية، وبناء الثقة.

الرسالة النهائية لكتاب “لا تقسم الفرق أبدًا” هي أن حياتك كلها سلسلة من المفاوضات. من خلال تبني عقلية المفاوض المتعاطف، يمكنك تحويل المواجهات إلى محادثات تعاونية، والخلافات إلى فرص، ليس فقط للحصول على ما تريد، بل لخلق نتائج أفضل للجميع. فالتفاوض العظيم لا يترك وراءه فائزًا وخاسرًا، بل يترك شريكين يشعران بأنهما قد تم فهمهما واحترامهما.

Click to rate this post!
[Total: 0 Average: 0]