هل سبق لك أن خرجت من محادثة وأنت تشعر بسوء فهم عميق، أو ربما بالأسف على كلمات قلتها في لحظة غضب؟ ماذا لو كانت هناك طريقة ليس فقط لتجنب هذه الصراعات، بل لتحويلها إلى فرص لتعميق الروابط الإنسانية؟ هذا هو الوعد الذي يقدمه عالم النفس مارشال ب. روزنبرغ في كتابه، “التواصل غير العنيف: لغة الحياة”. لا يقدم الكتاب مجرد نصائح في التواصل، بل يقدم نموذجًا ثوريًا لإعادة برمجة لغتنا وعقليتنا، بعيدًا عن لغة اللوم والحكم، نحو لغة التعاطف والصدق التي تلامس القلوب.

يكشف هذا الملخص عن المكونات الأساسية الأربعة لهذا النموذج، ليس كقواعد جامدة، بل كرحلة واعية نحو فهم أنفسنا وفهم الآخرين على مستوى أعمق، مما يمنحنا القدرة على بناء جسور من الثقة حتى في أصعب المواقف.

لغة الحياة ولغة المأساة – الاختيار بين الزرافة وابن آوى

في قلب فلسفة روزنبرغ، يكمن تمييز جوهري بين طريقتين متناقضتين جذريًا في رؤية العالم والتواصل فيه، يجسدهما في استعارة بليغة: لغة “ابن آوى” ولغة “الزرافة”. لغة “ابن آوى” هي لغتنا المعتادة، تلك التي تشربناها من مجتمعات مبنية على الهرمية والمنافسة وأنظمة تعليمية تركز على الصواب والخطأ.

إنها لغة تتحدث من الرأس، وتستخدم أدوات مثل النقد، واللوم، والمقارنة، وإصدار الأحكام الأخلاقية (“هذا جيد”، “ذاك سيء”)، والتشخيص (“أنت أناني”، “هي غير مسؤولة”). هذه اللغة، رغم أنها تبدو طبيعية، إلا أنها لغة عنف كامن؛ فهي تفصل بين البشر، وتثير آليات الدفاع كالشعور بالذنب والخجل والخوف، وتحول الحوارات إلى ساحات معارك كلامية يسعى فيها كل طرف لإثبات صوابه.

في المقابل، يقدم روزنبرغ لغة “الزرافة” كلغة بديلة وواعية. تم اختيار الزرافة لسببين رمزيين:

  • أولاً، لأنها تمتلك أكبر قلب بين جميع الثدييات البرية، مما يمثل التواصل من منطلق التعاطف والرحمة.
  • ثانيًا، تمنحها رقبتها الطويلة منظورًا واسعًا ورؤية شاملة، مما يرمز إلى القدرة على رؤية الموقف من زوايا متعددة تتجاوز الحكم اللحظي.

لغة الزرافة هي لغة القلب، وهي لا تسعى إلى تحليل الآخرين أو تصنيفهم، بل إلى فهم ما هو “حي” فيهم وفينا: مشاعرهم واحتياجاتهم. إنها لغة تهدف إلى بناء الجسور والوصل، لا إقامة الجدران والفصل.

التحول من “ابن آوى” إلى “الزرافة” ليس مجرد تغيير في الكلمات، بل هو تحول عميق في النية – من نية الحكم إلى نية التواصل.

مسرح الدمى الذي يكشف الحقيقة (قصة)

لجعل هذا التمييز الفلسفي ملموسًا، لم يعتمد روزنبرغ على الشرح النظري فحسب، بل استخدم أداة مسرحية بسيطة لكنها عميقة الأثر في ورش عمله: دميتان يدويتان. كانت الأولى لابن آوى، بصوته الحاد ونبرته الهجومية. كان يضعها على يده ويجسد بها الحوار الداخلي والخارجي الذي نمارسه يوميًا: “كان يجب عليك أن تنهي هذا التقرير!

انظر الآن، لقد خذلت الفريق بأكمله بسبب كسلك!”. ثم، كان يخلع دمية ابن آوى ويضع دمية الزرافة على يده الأخرى، وهنا يتغير كل شيء. يتحول صوته إلى نبرة هادئة وفضولية: “عندما أرى أن التقرير لم يكتمل بعد والموعد النهائي قد حل، أشعر ببعض القلق لأنني أقدّر بشدة الالتزام تجاه الفريق. أتساءل ما إذا كان هناك شيء يقف في طريقك؟”.

كان الجمهور يرى ويسمع الفرق الهائل في الطاقة بين اللغتين. لم تكن مجرد كلمات مختلفة، بل كانت عوالم مختلفة تمامًا. أحدهما عالم اتهام وصراع، والآخر عالم فهم وبحث عن حلول. هذا الأسلوب البصري كان كفيلاً بكشف نمط التواصل المدمر الذي نمارسه دون وعي.

الأثر – كن عالم آثار لكلماتك

إن أول وأهم خطوة نحو تبني لغة الزرافة هي الوعي بلغة ابن آوى التي تسكننا. ابدأ اليوم بممارسة دور “عالم الآثار” لكلماتك وأفكارك. احتفظ بمذكرة صغيرة أو استخدم تطبيقًا على هاتفك، وخصص يومًا كاملاً لمراقبة وتسجيل “لحظات ابن آوى” – كل مرة تجد فيها نفسك تصدر حكمًا على شخص ما (بما في ذلك نفسك)، أو تستخدم كلمات مثل “يجب”، “دائمًا”، “أبدًا”، أو تلقي باللوم.

الهدف ليس أن تحكم على نفسك لكونك تستخدم لغة ابن آوى، فهذا سيكون مجرد “ابن آوى” آخر يحكم على “ابن آوى”! الهدف هو الملاحظة بفضول ورحمة. هذا الوعي بحد ذاته يضعف من قبضة هذا النمط التلقائي ويمنحك خيارًا في المرة القادمة: هل ستتحدث من رأسك أم من قلبك؟

الخطوة الأولى – أن ترى ما هو كائن، لا ما تحكم به عليه

المكون الأول في بناء حوار واعٍ هو القدرة على التمييز الدقيق بين الملاحظة والتقييم. أدمغتنا، بحكم تطورها، هي آلات لصنع المعنى وإصدار الأحكام السريعة، وهي مهارة كانت ضرورية للبقاء على قيد الحياة. لكن في عالم العلاقات الإنسانية المعقد، هذه المهارة غالبًا ما تأتي بنتائج عكسية.

نحن نميل إلى الخلط بين ما نراه ونسمعه بشكل موضوعي (الملاحظة) وبين تفسيراتنا وقصصنا وأحكامنا حوله (التقييم). عبارة مثل “أنت لا تهتم بي أبدًا” ليست ملاحظة، بل هي تقييم شامل مبني على تفسير لسلوكيات متعددة.

الملاحظة الصافية، كما يصفها الفيلسوف الهندي جيدو كريشنامورتي، هي “أعلى درجات الذكاء البشري”. إنها تتطلب منا أن نصف السلوك كما لو كنا كاميرا فيديو محايدة تسجل الأحداث دون أي تعليق. “عندما تحدثتُ عن يومي الصعب، لاحظتُ أنك نظرت إلى هاتفك ثلاث مرات” هي ملاحظة. “لقد تجاهلتني تمامًا” هو تقييم.

عندما نبدأ حوارًا بتقييم، فإننا ندعو الطرف الآخر بشكل غير مباشر إلى الدفاع عن نفسه أو الهجوم المضاد، مما يضمن تقريبًا أن الحوار سيفشل في تحقيق أي تواصل حقيقي. الملاحظة الصافية، على النقيض، تخلق أرضية مشتركة من الواقع المتفق عليه يمكن لكلا الطرفين الوقوف عليها بأمان.

المدير الذي تعلم أن يرى (قصة)

لنتعمق في مثال المدير والموظف. في السيناريو الأول، يدخل المدير إلى مكتب الموظف ويقول بنبرة حادة: “أنت مهمل جدًا في عملك. هذا التقرير كارثي!”. في هذه اللحظة، ما الذي يحدث في عقل الموظف؟ يشعر بالهجوم، والإهانة، والظلم. قد لا يسمع حتى بقية الكلام. عقله يبدأ فورًا في بناء جدار دفاعي: “لكنني عملت عليه طوال الليل!”، “إنه لا يقدر جهودي أبدًا!”، “زميلي فلان تقاريره أسوأ بكثير!”. الحوار انتهى قبل أن يبدأ.

الآن، تخيل سيناريو مختلفًا يطبق فيه المدير مبدأ الملاحظة. يدخل ويقول بهدوء: “لقد قرأت التقرير الذي سلمتني إياه هذا الصباح. لاحظت أن هناك ثلاثة أخطاء إحصائية في الصفحة الثانية، وأن قسم النتائج النهائية لم يتم تضمينه”. هنا، لا يوجد هجوم شخصي. المدير يصف ما رأته عيناه. هذا يدعو الموظف إلى النظر إلى التقرير نفسه بدلاً من الدفاع عن شخصيته. من المرجح أن تكون استجابته شيئًا مثل: “أوه، لم أنتبه لذلك. دعني أراجعه فورًا”.

لقد تحول الموقف من مواجهة شخصية إلى مشكلة عملية يمكن حلها بالتعاون، وكل ذلك بسبب البدء بملاحظة صافية بدلاً من تقييم قاسٍ.

الأثر – كن “مخرج الفيلم الوثائقي” لحياتك

قبل أن تبدأ محادثة مهمة، خاصة إذا كنت تشعر بالانزعاج، قم بهذا التمرين العقلي السريع: تخيل أنك مخرج أفلام وثائقية ومهمتك هي تسجيل المشهد دون أي تحيز. اسأل نفسك:

  • ما الذي ستسجله الكاميرا بالضبط؟
  • ما هي الكلمات المحددة التي قيلت؟
  • ما هي الأفعال الملموسة التي حدثت؟

تجنب الكلمات التي تحمل تقييمًا ضمنيًا مثل “دائمًا”، “أبدًا”، “كثيرًا”، “قليلاً”. بدلًا من “أنت تتأخر دائمًا”، قل “في هذا الأسبوع، وصلت إلى المنزل بعد الساعة الثامنة مساءً في ثلاث ليالٍ”.

هذه الدقة لا تجعل حجتك أقوى فحسب، بل تظهر احترامًا للطرف الآخر من خلال تقديم حقائق يمكن مناقشتها بدلاً من اتهامات يجب الدفاع ضدها. هذا هو أساس بناء الثقة.

الخطوة الثانية – تحمّل مسؤولية مشاعرك والتعبير عنها بصدق

بعد وضع أساس الملاحظة الموضوعية، تأتي الخطوة الثانية: الغوص في عالمنا الداخلي لتحديد مشاعرنا والتعبير عنها بصدق ومسؤولية. وهنا، يكشف روزنبرغ عن فخ لغوي شائع نقع فيه جميعًا، وهو الخلط بين المشاعر الحقيقية و”الأفكار التي تتنكر في هيئة مشاعر”.

المشاعر الحقيقية هي تجارب جسدية وعاطفية تحدث داخلنا، ويمكن التعبير عنها بكلمة واحدة غالبًا (مثل: حزين، سعيد، غاضب، خائف، متحمس، محبط، مرتاح). أما الأفكار المتنكرة، فهي عبارات تبدأ بـ “أشعر أن…” أو “أشعر كأن…” ولكنها في الحقيقة تفسيرات أو أحكام على سلوك الآخرين.

عندما نقول “أشعر أنك لا تحترمني”، نحن لا نعبر عن شعورنا، بل نقدم تشخيصًا لسلوك الطرف الآخر ونلقي عليه اللوم. الشعور الحقيقي الكامن وراء هذا الفكر قد يكون “الألم” أو “الإحباط”. الفرق حاسم: التعبير عن المشاعر الحقيقية (“أنا أشعر بالألم”) هو فعل من أفعال الكشف عن الذات والهشاشة، وهو يدعو إلى التعاطف. أما التعبير عن الأفكار المتنكرة (“أنت لا تحترمني”) فهو فعل هجومي يدعو إلى الدفاع.

تحمل المسؤولية عن مشاعرنا يعني الاعتراف بأن الآخرين قد يكونون “محفزًا” لمشاعرنا، لكنهم ليسوا “السبب”. السبب الحقيقي يكمن في احتياجاتنا، وهو ما سنتناوله في الخطوة التالية.

الخروج من وراء “الجدار” (قصة)

كانت إحدى المشاركات في ورش عمل روزنبرغ تعاني من قطيعة عاطفية مع زوجها. لسنوات، كانت تكرر له نفس الشكوى: “أشعر وكأنني أعيش مع جدار”. كانت هذه العبارة تعبر عن إحباطها، لكنها كانت تفعل ذلك بلغة “ابن آوى”. بالنسبة لزوجها، كانت هذه العبارة لغزًا محبطًا وهجومًا في آن واحد. ماذا يعني أن تكون “جدارًا”؟ كان يشعر بالهجوم والارتباك، فينسحب أكثر، مما يؤكد في نظرها أنه “جدار”.

لقد كانا عالقين في حلقة مفرغة من سوء الفهم. بتوجيه من روزنبرغ، تعلمت الزوجة أن تبحث عن الشعور الحقيقي الكامن وراء استعارة “الجدار”. في محادثة لاحقة، أخذت نفسًا عميقًا وقالت شيئًا مختلفًا تمامًا. قالت: “عزيزي، عندما أعود إلى المنزل وأشاركك تفاصيل يومي، وأرى أنك تنظر إلى التلفاز ولا ترد عليّ (ملاحظة)، أشعر بالوحدة الشديدة والألم (شعور)”.

في تلك اللحظة، حدث تحول. لم يعد الأمر يتعلق به كـ “جدار”، بل أصبح يتعلق بشعورها بالوحدة. هذه الصراحة والهشاشة اخترقت دفاعاته. نظر إليها لأول مرة بتعاطف حقيقي وقال: “لم أكن أعلم أنك تشعرين بكل هذا”. لقد فتحت لغة المشاعر الحقيقية بابًا كان مغلقًا لسنوات.

الأثر – كن مترجمًا لعواطفك

اجعل من المعتاد أن تتوقف وتترجم أفكارك إلى مشاعر. عندما تجد نفسك تفكر “أشعر أنني منبوذ”، اسأل نفسك: “ما هو الشعور الحقيقي الذي أشعر به عندما يراودني هذا الفكر؟ هل هو حزن؟ ألم؟ خيبة أمل؟”.

ابحث عبر الإنترنت عن “قائمة المشاعر” المستخدمة في التواصل غير العنيف ووسع مفرداتك العاطفية. كلما أصبحت أكثر دقة في تسمية مشاعرك، أصبحت أكثر قدرة على فهم نفسك والتعبير عنها بوضوح للآخرين.

تذكر أن التعبير عن المشاعر الحقيقية ليس علامة ضعف، بل هو أقوى أشكال الصدق الذي يبني علاقات عميقة وحقيقية.

الخطوة الثالثة – اكتشاف القلب النابض للحوار… الاحتياجات

ما الذي يحركنا حقًا؟

هذه هي الخطوة التي تحول التواصل غير العنيف من تقنية تواصل إلى فلسفة عميقة للحياة. يطرح روزنبرغ فكرة ثورية وبسيطة في آن واحد: كل ما يفعله البشر، كل كلمة يقولونها، كل شعور يشعرون به، هو في الأساس محاولة لتلبية احتياجات إنسانية عالمية.

هذه الاحتياجات (مثل الحاجة إلى الأمان، التواصل، القبول، الاحترام، الاستقلالية، المعنى، المرح) هي مشتركة بين جميع البشر، بغض النظر عن ثقافتهم أو خلفيتهم. مشاعرنا هي نظام الإنذار الداخلي لدينا؛ فهي تخبرنا بحالة احتياجاتنا. عندما تُلبى احتياجاتنا، نشعر بمشاعر ممتعة (سعادة، رضا، سلام). وعندما لا تُلبى، نشعر بمشاعر مؤلمة (غضب، حزن، خوف).

هذا الفهم يغير كل شيء. فهو ينقلنا من عالم اللوم (“أنت أغضبتني!”) إلى عالم المسؤولية والفهم (“أنا غاضب لأن حاجتي إلى الاحترام لم تُلَبَّ”). الأهم من ذلك، أنه يمنحنا مفتاحًا لفهم السلوكيات الأكثر إيلامًا للآخرين. وهنا يأتي الاقتباس الأكثر قوة وتأثيراً في الكتاب:

“كل عنف هو تعبير مأساوي عن حاجة غير ملباة.”

هذا الاقتباس هو دعوة للنظر إلى ما هو أبعد من السلوكيات المؤذية التي نراها في العالم – سواء كانت كلمة قاسية، أو فعل عدواني، أو حتى عنفًا جسديًا. إنه يطلب منا ألا نبرر الفعل، بل أن نفهم المأساة الكامنة وراءه

لغة الاحتياجات التي أوقفت حربًا قبلية (قصة)

تتجلى قوة هذا المبدأ في قصة مذهلة يرويها روزنبرغ عن وساطته بين قبيلتين متناحرتين في شمال نيجيريا. كان الصراع بينهما داميًا ومستمرًا لعقود. في اليوم الأول من الوساطة، كان الجو مشحونًا بالكراهية والاتهامات المتبادلة. بدلاً من الخوض في تفاصيل من فعل ماذا ومتى، بدأ روزنبرغ في توجيه الحوار نحو الاحتياجات.

سأل زعيم القبيلة الأولى: “عندما قام الطرف الآخر بذلك الفعل، ما هي الحاجة التي لم تُلَبَّ لديكم والتي سببت لكم كل هذا الألم؟”. بعد صمت طويل، تحدث الزعيم عن حاجتهم للأمن الجسدي. ثم وجه نفس السؤال لزعيم القبيلة الثانية، الذي تحدث بدوره عن حاجتهم للاحترام وكرامة أجدادهم.

استمر روزنبرغ في هذا النهج لساعات، مترجمًا كل اتهام إلى شعور وحاجة كامنة. شيئًا فشيئًا، بدأ الجليد يذوب. حدث التحول الكبير عندما عبر أحد الزعماء عن خوفه العميق على مستقبل أطفاله. وهنا، نظر إليه الزعيم الآخر وقال بصوت متهدج: “هذا هو بالضبط ما نبقى مستيقظين طوال الليل نفكر فيه أيضًا”.

في تلك اللحظة، لم يعودوا أعداءً، بل أصبحوا آباءً يشاركون نفس الحاجة الإنسانية العميقة: الحاجة إلى ضمان مستقبل آمن ومزدهر لأطفالهم. من هذه الأرضية المشتركة، بدأوا لأول مرة في تاريخهم في البحث عن حلول حقيقية.

الأثر – كن محققًا في الاحتياجات

حول هذا المفهوم إلى ممارسة يومية. أولاً، طبقه على نفسك. عندما تشعر بمشاعر قوية وغير مريحة، توقف واسأل: “ما هي الحاجة غير الملباة في داخلي الآن والتي تسبب هذا الشعور؟ هل هي الحاجة إلى التقدير؟ أم إلى الوضوح؟ أم إلى الراحة؟”.

ثانيًا، طبقه على الآخرين. عندما تواجه سلوكًا صعبًا من شخص ما، قاوم رد فعلك الفوري بالحكم، واسأل بفضول: “أتساءل ما هي الحاجة التي يحاول هذا الشخص تلبيتها من خلال هذا السلوك، وإن كان بطريقة غير موفقة؟”.

هذا السؤال وحده قادر على تحويل غضبك إلى تعاطف، ويفتح لك أبوابًا للتواصل لم تكن ممكنة من قبل.

الخطوة الرابعة – طلب ما يثري حياتك، لا إصدار الأوامر

بعد أن قمت بملاحظة الموقف بموضوعية، وعبرت عن مشاعرك بصدق، وربطتها باحتياجاتك العميقة، تأتي الخطوة الأخيرة والعملية: تقديم طلب واضح. وهنا يضع روزنبرغ تمييزًا حاسمًا بين “الطلب” و”الأمر”. ظاهريًا، قد يبدوان متشابهين، لكن الفرق في الطاقة والنية هائل. الأمر هو محاولة للسيطرة على سلوك الآخرين، ويحمل تهديدًا ضمنيًا باللوم أو العقاب إذا لم يتم الامتثال له. إنه يدعو إما إلى الخضوع أو التمرد.

أما الطلب الحقيقي في التواصل غير العنيف، فهو دعوة صادقة للطرف الآخر للمساهمة في إثراء حياتك من خلال المساعدة في تلبية احتياجك، مع احترام كامل لحريته في قول “لا”. لكي يكون الطلب فعالاً، يجب أن يستوفي ثلاثة شروط رئيسية:

أولاً، يجب أن يكون مصاغًا بلغة إيجابية وعملية؛ أي أن يصف ما تريده أن يحدث، وليس ما لا تريده. فالدماغ يجد صعوبة في معالجة السلبيات. “لا تصرخ في وجهي” تترك الشخص في حيرة مما يجب فعله، بينما “هل يمكنك أن تخفض صوتك لنتحدث بهدوء؟” تقدم بديلاً واضحًا.

ثانيًا، يجب أن يكون الطلب ملموسًا ومحددًا وقابلاً للتنفيذ. “أريد المزيد من الاحترام” طلب غامض، بينما “هل ستكون على استعداد للاستماع لي حتى أنتهي من كلامي قبل أن ترد؟” هو طلب محدد.

ثالثًا، يجب أن يكون طلبًا حقيقيًا وليس أمرًا متنكرًا، والاختبار هو كيفية استجابتك لكلمة “لا”. إذا شعرت بالغضب أو حاولت إشعار الطرف الآخر بالذنب، فقد كان أمرًا منذ البداية.

من طلب غامض إلى اتفاق واضح (قصة)

دعنا نعود إلى قصة الزوجة التي تشعر بأن زوجها يقضي وقتًا طويلاً في العمل. في محاولتها الأولى، قالت له: “أريدك أن تتوقف عن إعطاء كل الأولوية لعملك!”. هذا ليس طلبًا فعالاً؛ إنه سلبي، وعام، ويحمل نبرة اتهام. النتيجة المتوقعة هي جدال لا نهاية له حول ما إذا كان يعطي الأولوية لعمله أم لا.

بعد تعلمها لغة التواصل غير العنيف، قامت بصياغة طلبها بشكل مختلف تمامًا. قالت:

“عندما أرى أنك تواصل العمل على حاسوبك بعد عودتي إلى المنزل (ملاحظة)، أشعر بالوحدة والحزن (شعور)، لأنني أفتقد بشدة للتواصل والألفة بيننا (حاجة). فهل ستكون على استعداد لأن نتفق على إغلاق أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا كل ليلة في تمام الساعة الثامنة، وقضاء ساعة معًا نتحدث فيها أو نفعل شيئًا مشتركًا؟ (طلب)“. لاحظ الفرق.

الطلب هنا إيجابي (“قضاء ساعة معًا”)، ملموس ومحدد (“الساعة الثامنة”)، وقابل للتنفيذ. إنه لا يهاجمه، بل يدعوه للمشاركة في استراتيجية محددة لتلبية حاجتها (وحاجته المحتملة أيضًا) للتواصل. هذا النوع من الطلبات من المرجح جدًا أن يلقى استجابة إيجابية أو على الأقل يفتح باب التفاوض حول استراتيجية أخرى.

الأثر – كن مهندسًا لطلباتك

قبل أن تطلب شيئًا، قم بهندسته بعناية. اسأل نفسك هذه الأسئلة:

1. هل أطلب شيئًا إيجابيًا ومحددًا؟ (ماذا أريد أن يفعل الشخص، وليس ما أريده أن يتوقف عن فعله؟).

2. هل طلبي قابل للتنفيذ الآن؟ (هل هو شيء ملموس يمكن القيام به؟).

3. هل أنا مستعد حقًا لقبول “لا” كإجابة؟ إذا لم تكن كذلك، فمن الأفضل أن تكون صادقًا وتعترف بأنك في موقف لا يمكنك فيه تقديم خيار.

بالإضافة إلى ذلك، استخدم أداة قوية تسمى “طلب الاتصال” قبل “طلب الفعل”. قبل أن تطلب تغيير السلوك، قد تحتاج إلى التأكد من أن رسالتك قد وصلت. يمكنك أن تقول: “قبل أن نناقش الحلول، هل يمكنك أن تخبرني بما سمعتني أقول الآن؟ أريد فقط التأكد من أنني كنت واضحًا”. هذا الطلب البسيط يمكن أن يمنع ساعات من سوء الفهم.

القوة التحويلية للتعاطف – الاستماع بقلبك

إن نموذج التواصل غير العنيف ليس مجرد أداة للتعبير عن الذات، بل هو بنفس القدر أداة للاستماع للآخرين. يسمي روزنبرغ هذا النوع من الاستماع “التعاطف”، وهو يختلف تمامًا عما نفهمه عادةً بهذه الكلمة.

التعاطف في هذا السياق ليس الشفقة، أو المواساة (“يا مسكين”)، أو حتى الفهم الفكري. إنه فن الحضور الكامل مع شخص آخر، وتفريغ عقولنا تمامًا من أجندتنا الخاصة – من رغبتنا في تقديم النصيحة، أو تصحيح الحقائق، أو الدفاع عن أنفسنا، أو مشاركة قصصنا المماثلة.إنه يعني أن نوجه كل انتباهنا لتخمين ما هو حي في الشخص الآخر في هذه اللحظة: ما الذي يشعر به؟ وما الذي يحتاجه؟

الاستماع التعاطفي هو عملية نشطة تتضمن عكس ما نسمعه من مشاعر واحتياجات على شكل سؤال لطيف: “يبدو أنك تشعر بالإحباط الشديد لأنك تحتاج إلى بعض التقدير لجهودك؟”. هذا النوع من الاستماع لا “يصلح” أي شيء، لكنه يفعل شيئًا أكثر أهمية: إنه يخلق مساحة آمنة يشعر فيها الشخص الآخر بأنه مسموع ومفهوم بعمق، وغالبًا ما يكون هذا كل ما يحتاجه ليجد حلوله الخاصة. وهنا تكمن حكمة الاقتباس:

“لا تفعل شيئًا فحسب، قف هناك.”

هذه النصيحة هي دعوة لمقاومة “الدافع الإصلاحي” الذي ينتابنا عندما نرى شخصًا يعاني. بدلاً من القفز لتقديم المشورة أو محاولة التخفيف من ألمه، يدعونا روزنبرغ إلى مجرد “الوقوف هناك” عاطفيًا – أن نكون حاضرين تمامًا لألمهم، أن نستقبله دون حكم، وأن نعكس لهم أننا نرى ونسمع ما يمرون به. هذا الحضور الصامت واليقظ هو في كثير من الأحيان أكثر شفاءً من أي كلمة أو نصيحة، لأنه يوصل رسالة قوية: “أنت لست وحدك. أنا هنا معك في هذا الألم”.

التعاطف الذي نزع فتيل القنبلة (قصة)

تعتبر قصة روزنبرغ في مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين مثالاً مذهلاً على قوة التعاطف في أكثر الظروف تطرفًا. كان قد دُعي للتحدث عن التواصل غير العنيف في مسجد، وكان الجو مشحونًا بالغضب واليأس. بمجرد أن قدمه المضيف على أنه أمريكي، قفز رجل من بين الحضور وصرخ في وجهه مباشرة: “قاتل!”. ثم بصق أمامه.

تجمد الجمهور، لكن روزنبرغ لم يتخذ موقفًا دفاعيًا. بدلاً من ذلك، نظر إلى الرجل مباشرة وحاول الاتصال بما هو حي وراء هذه الكلمة. بدأ في تخمين مشاعره واحتياجاته بصوت عالٍ وهادئ: “هل أنت غاضب (شعور) لأنك تتوق إلى أن تستخدم بلادي مواردها بطريقة تدعم حياة شعبك وحريته (حاجة)؟”.

استمر الرجل في الصراخ، واستمر روزنبرغ في الاستماع بعمق وتخمين المشاعر والاحتياجات الكامنة وراء كل عبارة غاضبة: “هل أنت يائس وتحتاج إلى تغيير جذري الآن؟”، “هل تشعر بالرعب عندما تفكر في سلامة أطفالك؟”.

استمر هذا الحوار أحادي الجانب لما يقرب من ساعة. شيئًا فشيئًا، بدأ غضب الرجل يهدأ، وبدأ يشعر بأنه مسموع، ربما للمرة الأولى في حياته بهذه الطريقة.

في النهاية، توقف الرجل عن الصراخ، وبعد لحظة صمت، دعا مارشال روزنبرغ لتناول العشاء في منزله. لقد حوّل الاستماع التعاطفي الخالص موقفًا متفجرًا إلى بداية علاقة إنسانية.

الأثر – تدريب عضلة التعاطف

التعاطف مهارة يمكن تطويرها. في محادثتك القادمة مع شخص يعبر عن مشاعر قوية، جرب هذه الخطوات:

1. أسكت صوتك الداخلي: تجاهل رغبتك في الحكم أو تقديم الحلول. فقط كن حاضرًا.

2. استمع لما وراء الكلمات: حاول أن تسمع المشاعر والاحتياجات غير المعلنة.

3. اعكس ما سمعته كسؤال: استخدم عبارات مثل “هل تشعر بـ… لأنك تحتاج إلى…؟” أو “يبدو أنك تقدر حقًا…”. لا تقلق من أن تخطئ في التخمين؛ إذا كنت مخطئًا، سيقوم الشخص بتصحيحك، وهذا في حد ذاته يعمق الحوار.

وأخيرًا، لا تنسَ تطبيق التعاطف على نفسك. عندما تسمع صوت “ابن آوى” الناقد في رأسك، استمع له بتعاطف. ما هي الحاجة غير الملباة التي يحاول هذا الصوت التعبير عنها بشكل مأساوي؟

في الختام – لغة تغير العالم، محادثة في كل مرة

إن “التواصل غير العنيف” هو وعي مستمر بأن كلماتنا لديها القدرة على خلق الألم أو الشفاء. من خلال الممارسة الواعية للمكونات الأربعة – الملاحظة الصافية، والتعبير الصادق عن المشاعر، والربط بالاحتياجات الإنسانية العالمية، وتقديم طلبات واضحة ومحترمة – نحن لا نغير محادثاتنا فحسب، بل نغير علاقاتنا.

يقدم لنا مارشال روزنبرغ هدية ثمينة: خارطة طريق للعودة إلى طبيعتنا المتعاطفة. إنه يدعونا إلى أن نؤمن بأن كل إنسان، خلف أقنعته الدفاعية أو كلماته القاسية، لديه قلب ينبض بنفس الاحتياجات التي لدينا. ربما تكون أعظم رحلة يمكن أن نخوضها هي تلك المسافة القصيرة ولكن الصعبة بين رأسنا الذي يحكم وقلبنا الذي يتفهم. وهذه الرحلة تبدأ بكلمة واحدة واعية.

Click to rate this post!
[Total: 0 Average: 0]