في عالم يطغى عليه الحديث عن الكوارث والفقر والاحتباس الحراري والأزمات المتكررة، يبدو من الطبيعي أن يتسلل التشاؤم إلى النفوس، وكأن الأرض تسير نحو الهاوية لا محالة. الإعلام لا يرحم، يغذي الخوف بوجبات يومية من العناوين السوداوية، ويُصوِّر المستقبل كأنه فخ ينتظرنا في الزاوية.

لكن “بيتر ديامنديس” و”ستيفن كوتر” يفتحان نافذة على عالم آخر، عالم لا تراه العناوين الإخبارية، لكنه ينمو أمام أعيننا بصمت: عالم الوفرة.

يروي الكاتبان في بداية الكتاب حكاية بسيطة لكنها معبرة، عن رجل يعيش في إحدى القرى الأفريقية، لا يملك كهرباء، ولا يصل إليه طبيب، ولا يعرف ما تعنيه عبارة “مياه نظيفة”. بعد عشر سنوات، هذا الرجل يحمل هاتفاً ذكياً، يتعلم من الإنترنت، ويجري معاملات مالية من خلال تطبيق على جهازه. لم تتغير مدينته كثيراً، لكن التكنولوجيا كسرت القيود القديمة وفتحت له أبواباً ما كانت لتُفتح لولا قفزات العلم والابتكار.

الكتاب لا ينكر المصاعب. بل يقرّ أن أمام البشرية تحديات ضخمة، لكن الفرق يكمن في النظرة: هل نراها جداراً يحاصرنا، أم سلماً نصعد به؟
يقول المؤلفان: “المستقبل ليس قدراً محتومًا، بل خيارٌ يمكن تشكيله بالتفكير الجريء والعمل الجماعي.”

وقد شبَّهوا الحال التي يعيشها العالم أحيانًا، بمن “ينظر إلى البحر في يوم عاصف ويظن أن الغرق حتمي، بينما لا يرى في الأفق السفينة القادمة”.

في ثقافتنا العربية، نقول دائمًا: “إذا ضاقت، اتسعت”، وهذا هو جوهر مقدمة هذا الكتاب: أن وراء كل أزمة فرصة، وأن التقدم البشري لا يسير بخط مستقيم، بل بقفزات يقودها الحالمون والمخترعون والمغامرون.

لا يعتمدان المؤلفان على الأمل فقط، بل يدعمان طرحهما بأرقام، تجارب، وأمثلة من الواقع. في نهاية، تبدأ ملامح فكرة “الوفرة” بالظهور، لكن قبل الغوص فيها، يهيئنا الكتاب لفهم لماذا لا نراها بوضوح رغم أنها تحيط بنا من كل جانب.

ما هي الوفرة؟ ولماذا لا نراها؟

الوفرة، كما يراها المؤلفان، ليست في أن نعيش في عالم بلا مشاكل، بل في إمكانية الوصول إلى الحلول بطرق أسرع وأرخص وأكثر عدلاً مما كان ممكنًا في أي وقت مضى.
إنها أن يحصل كل إنسان على احتياجاته الأساسية: الماء، الطعام، الصحة، التعليم، والفرص… لا بفضل الحظ، بل بقوة التكنولوجيا والتعاون الإنساني.

لكن رغم هذا التقدم، فإن أكثر الناس لا يرون الوفرة، لأن أدمغتنا مبرمجة على الخوف والنجاة أكثر من التفاؤل والفرص. منذ آلاف السنين، كان الإنسان إذا سمع صوتًا في الغابة، يتوقع الخطر لا الأمان. الخوف أنقذنا قديمًا، لكنه اليوم يعمي أعيننا عن رؤية ما يتحسن فعلاً حولنا.

الكتاب يُورد مثالًا بسيطًا لكنه عميق: في بداية القرن العشرين، كان الألمنيوم نادرًا جدًا، لدرجة أن ملك فرنسا احتفظ بسكاكينه الألمنيوم بعيدًا عن العامة، لأنه أغلى من الذهب. لكن بفضل التقدم العلمي، أصبح الألمنيوم اليوم يُلقى في القمامة. هذه هي الوفرة: عندما يتحول الشيء النادر إلى متاح للجميع بفضل العقل والعلم.

في عالمنا، نسمع كثيرًا قول: “ما كل ما يلمع ذهبًا”، لكن في هذا السياق، قد نقول العكس: “بعض الذهب حولنا، ولا نراه يلمع لأننا لم نعتد على النظر إليه.”

يرى المؤلفان أن أحد أسباب عجزنا عن رؤية الوفرة هو “تحيّز السلبية” في الإعلام. الأخبار السارة لا تُباع، أما الكوارث، فهي “تجذب المشاهدين مثل النار تجذب الفراش”. لذلك، تُبنى تصوراتنا عن العالم من خلال صور مجتزأة ومظلمة.

لكن الإحصاءات التي يعرضها الكتاب ترسم صورة مختلفة تمامًا:

  • معدلات الفقر المدقع انخفضت أكثر من النصف خلال الثلاثين سنة الماضية.
  • وفيات الأطفال تراجعت بنسبة هائلة.
  • معدلات التعليم والاتصال والقدرة على الوصول للمعلومة ارتفعت في أماكن لم تكن فيها كهرباء قبل عشرين عامًا.

في النهاية، الوفرة ليست حلمًا بعيدًا، بل واقعاً بدأ يتحقق بالفعل، لكننا بحاجة إلى أن نعيد تدريب عقولنا على رؤيته.

القوى التي تغيّر العالم

لا يكتفي الكتاب بتقديم فكرة الوفرة كمجرد أمل، بل يسندها إلى أربع قوى رئيسية تدفع البشرية نحو مستقبل أكثر إشراقًا. هذه القوى ليست شعارات، بل محركات حقيقية تُعيد تشكيل العالم تحت أعيننا، حتى لو لم ننتبه بعد.

1. التكنولوجيون العباقرة

في كل زمان يظهر من يتحدى المستحيل. مثلما صنع عباس بن فرناس أجنحته ليحلق، اليوم هناك روّاد مثل إيلون ماسك، الذي جعل من استيطان المريخ فكرة قابلة للنقاش، ومن السيارات الكهربائية واقعًا على الأرض. هؤلاء العباقرة لا يرضون بالواقع، بل يخترقونه بجرأة وأفكار ثورية.

يذكر الكتاب مثال “دين كامن” مخترع جهاز تنقية الماء المحمول، الذي يمكن أن يمنح القرى الفقيرة مياهًا صالحة للشرب دون كهرباء أو بنية تحتية. هذا النوع من الابتكار لا يُبهر فحسب، بل يُغيّر مصائر مجتمعات بأكملها.

2. المبتكرون من خارج النظام

الشركات الكبرى ليست وحدها من تملك الحلول. بل غالبًا ما تأتي الإبداعات الكبرى من شباب أو هواة يعملون خارج النظام التقليدي.
كما في قصة “ويليام كامكوامبا”، شاب من مالاوي لم يكمل تعليمه، قرأ كتابًا في مكتبة قريته وصنع بيديه طاحونة هواء من الخردة، جلبت الكهرباء لعائلته.

يقول الكتاب: “الموهبة موزعة بالتساوي، لكن الفرص لا تزال لا تُوزَّع بعدالة.”

3. رأس المال المغامر

الرأسمال لم يعد محصورًا في البنوك التقليدية. اليوم هناك مستثمرون يبحثون عن الأفكار المجنونة ويدفعون فيها ملايين الدولارات. شركات مثل Google وAmazon بدأت كأفكار صغيرة، لكن وجدت من يؤمن بها. هذا النوع من الاستثمار يسرّع تحوّل الفكرة إلى واقع، ويخلق قفزات في الابتكار.

يقول الكتاب: “المال ليس العائق، بل الخيال المحدود هو العائق الحقيقي.”

4. مليارات العقول الجديدة

مع انتشار الإنترنت والهواتف الذكية، دخل إلى ساحة الإبداع مليارات العقول من مناطق كانت معزولة سابقًا. شاب في قرية نائية يستطيع الآن تعلُّم البرمجة من “يوتيوب”، أو دخول مسابقة علمية عالمية، بل وحتى ابتكار حل لمشكلة يعيشها مجتمعه.

هذه العقول الجديدة هي كنز دفين، والكتاب يرى أن تمكينها سيكون “أكبر محرك للوفرة عرفه العالم منذ الثورة الصناعية”.

التقنية تصنع المعجزات

في قلب فكرة “الوفرة” يقف العملاق الذي لا ينام – التكنولوجيا.

الكتاب يُشبّه التكنولوجيا بمصباح علاء الدين، لا يكتفي بتحقيق أمنية واحدة، بل يمنح البشر قدرة شبه سحرية على تجاوز الندرة وتحويلها إلى وفرة.
فهي أدوات ذكية، بل وقوى خارقة تُعيد كتابة قواعد الحياة – ما كان حلمًا بالأمس، أصبح اليوم تطبيقًا في الجيب.

الماء – من أزمة إلى فرصة

في بلادٍ مثل اليمن أو السودان، تعتبر المياه النظيفة مسألة حياة أو موت. لكن التقنية اليوم تغير اللعبة. أحد الابتكارات التي يُبرزها الكتاب هو جهاز يُدعى “Slingshot“، من اختراع دين كامن، قادر على تحويل أي نوع من الماء – حتى مياه الصرف الصحي – إلى ماء صالح للشرب باستخدام طاقة بسيطة.

الفكرة هنا أن المشكلة لم تكن في الماء، بل في القدرة على الوصول إليه أو تنقيته. والتقنية جعلت ذلك ممكنًا حتى في القرى النائية.

الطاقة – الشمس تشرق للجميع

بينما تتصارع الدول على النفط والغاز، الشمس تشرق بلا فاتورة. والطاقة الشمسية أصبحت أرخص بأضعاف مما كانت عليه قبل عشر سنوات. هذا يعني أن الفلاح في جنوب تونس أو سواحل اليمن يمكنه تشغيل مضخته أو تبريد دوائه بدون الحاجة لمحطات أو شبكات معقدة.

يعرض الكتاب مثالًا مذهلًا من الهند، حيث بُنيت قرية كاملة تعمل فقط على الطاقة الشمسية. واليوم هناك تقنيات تُركَّب فوق المنازل وتنتج الكهرباء بقدر حاجة الأسرة.

الغذاء – الزراعة من دون تربة

تقنيات الزراعة المائية والهوائية، والزراعة الرأسية في المدن، جعلت من الممكن إنتاج غذاء في قلب الصحراء، أو داخل المباني. فنحن لم نعد بحاجة إلى مساحات شاسعة من الأراضي، بل إلى ذكاء في إدارة الموارد.

ففي الإمارات، على سبيل المثال، نشهد ظهور مزارع عمودية مبتكرة تعتمد على المياه المالحة وتوظف تقنيات استشعار متطورة لإنتاج خضروات بمعايير عالمية. هذا النوع من الابتكار الجذري قد يجعل من مشكلة الجوع شيئًا من الماضي.

الصحة – الطبيب في جيبك

يقول المؤلف: “الهواتف الذكية ستصبح العيادات الجديدة للفقراء.”
تخيل تطبيقًا يفحص عينيك أو يسمع دقات قلبك ويربطك بطبيب حقيقي أو بطبيب بذكاء صناعي خلال دقائق. هذه التطبيقات بدأت تغزو العالم، خاصة في المناطق التي لا تصلها المستشفيات بسهولة.

والأهم، أن تكلفة هذه الابتكارات تنخفض بسرعة. فكما انخفض سعر الهاتف الذكي من ألف دولار إلى أقل من مئة، كذلك ستنخفض كلفة الصحة والتعليم والماء والطاقة.

في ثقافتنا، نقول: “الحاجة أم الاختراع”، لكن الكتاب يعكسها: “الاختراع هو من سيقضي على الحاجة.”

التقنية هنا أداة تحرير للبشر من قيود الندرة. إنها المفتاح الذي سيغيّر شكل الحياة في القرن الحادي والعشرين، ليس للأغنياء فقط، بل للجميع.

كيف نُسرّع الوفرة؟

الوصول إلى الوفرة ليس بأن ننتظر المستقبل ليتكفّل بالأمر، بل هو قرار جماعي وفردي نأخذه اليوم. والكتاب يقدّم هنا خارطة طريق لكيفية تسريع هذا التغيير بدلًا من انتظاره.

واقعية قوة تفكيرنا الإيجابي

الوفرة لا تعني التفاؤل الساذج، بل “تفاؤل متسلّح بالعلم”، كما يصفه الكاتبان.
إنه أن ترى التحديات، لكن في الوقت نفسه تدرك الحلول المحتملة. يقول الكتاب: “المتشائم يبدو ذكيًا في المجالس، لكن المتفائل هو من يغيّر العالم.”

من هنا تأتي أهمية تغيير طريقة تفكيرنا كمجتمعات. بدلًا من قول “ما في أمل“، نقول “أين المفتاح؟”. بدلًا من لوم الظروف، نبحث عن أدوات التغيير.

تبنّي عقلية الابتكار

أحد أكثر الأمثال شهرة في العالم العربي هو: “من جدّ وجد، ومن زرع حصد.”
لكن اليوم، من جدّ وابتكر، هو من يحصد أسرع.

الكتاب يشير إلى أهمية تحفيز الإبداع، خاصة بين الشباب. كيف؟ عبر تعليمهم حل المشكلات، ومنحهم مساحة للتجريب، ودعمهم ولو بخطوات صغيرة.

أيضا يعرض قصة “X Prize”، وهي جوائز مالية تُمنح لأشخاص يحققون اختراعات علمية حقيقية. مثلًا: جائزة لمن يخترع جهازًا يُشخّص 15 مرضًا عبر التنفس فقط. هذه الجوائز تُشعل خيال المبتكرين وتُحوّل الأفكار إلى إنجازات.

توسيع الوصول إلى المعرفة

في زمن الإنترنت، المعلومة أصبحت الدواء الأول للجهل والفقر. وكلما زاد وصول الناس إلى التعليم، زادت قدرتهم على إيجاد حلول لمشاكلهم الخاصة.
يؤكد المؤلفان أن “أعظم اختراع ليس الحاسوب، بل الاتصال المفتوح بالعالم.”

لهذا، فإن نشر الإنترنت والتعليم الرقمي في المجتمعات المحرومة هو من أسرع الطرق لزرع بذور الوفرة.

تحويل القوانين من عائق إلى محفّز

أحيانًا، تكون القوانين هي الجدار الذي يقف بين فكرة ثورية وواقع ممكن. يجب أن تتحوّل القوانين من “حارس قديم” إلى “مساعد جديد”.
يضرب الكتاب مثالًا ببلدان سهلت تسجيل الشركات الناشئة، فشهدت بعدها موجة من الابتكارات.

في عالمنا العربي، يمكننا تبسيط الإجراءات من خلال تشجيع المشاريع الصغيرة وتمويل الأفكار الناشئة، لأن ذلك قد يكون أسرع طريق نحو حياة أكثر عدلاً وتقدماً.

في المحصلة، تسريع الوفرة يتطلب منا أن نكسر دائرة الخوف، ونمدّ الجسور بدلًا من الحواجز. فالعالم في أزمة إرادة وتخيل، وليس في أزمة موارد.

الوفرة لنا جميعًا

الرسالة الأخيرة في هذا الكتاب لا تتعلق بالروبوتات ولا بالطاقة الشمسية، بل بعقل الإنسان.
إنها دعوة لأن نُعيد برمجة عقولنا، فـ”الوفرة تبدأ من الداخل قبل أن تصبح واقعًا خارجيًا”.

العقلية النادرة vs. عقلية الوفرة

في مجتمعاتنا، كثيرًا ما سمعنا عبارات مثل:
“الدنيا ما فيها خير”،
“الرزق محدود، والفرص قليلة”،
“الناس مقامات، واللي فوق يظل فوق”.

كل هذه العبارات تنبع من عقلية “الندرة”، وهي طريقة تفكير ترى الحياة كـ”كعكة صغيرة” إن أخذ منها أحدهم، قلّ نصيبك.

لكن الكتاب ينسف هذا المنظور، ويقول: “العقلية النادرة تخلق الفقر، بينما عقلية الوفرة تخلق الفرص.”

حين نؤمن أن الحلول موجودة، وأن الخير يتسع للجميع، تبدأ العقول في خلق المعجزات.

زرع الأمل

في عالم يعاني من الحروب، البطالة، الفقر، من السهل أن يُقال إن التفاؤل نوع من الهروب.
لكن الحقيقة أن الأمل أصبح مهارة يجب أن نتعلمها وندرب أنفسنا عليها.
يقول الكتاب بوضوح: المتشائم لا يُحدث فرقًا، بل ينزوي بعيدًا عن التغيير

وهنا تأتي مسؤولية الإعلام، التعليم، وحتى الأسرة، في زرع الأمل الواقعي، وإبراز النماذج الملهمة التي غيرت مجتمعاتها رغم الصعاب.

الوفرة ليست فقط تكنولوجيا، بل ثقافة

“يجب أن نُعلّم أطفالنا أن العالم مليء بالفرص، وأنهم قادرون على حلّ المشكلات بدلاً من التذمُّر منها. هذا هو الاستثمار الحقيقي.

أن نقول “أنا أستطيع”، بدلًا من ” لا أستطيع”، هذه هي بداية التحوّل.

في الختام

في النهاية، كتاب “الوفرة” يقدم رؤية جديدة للعالم، حيث يبرز أن الحياة ليست محكومة بالندرة، بل بالفرص التي يمكننا خلقها. من خلال الابتكار والإيمان بعقلية الوفرة، يمكننا تجاوز الكثير من التحديات.

الفكرة الأساسية هنا هي أن التقنية، التفكير الإيجابي، والتحولات الثقافية والاجتماعية هي مفاتيح بناء عالم أفضل. لذلك، يجب على الجميع تبني مفهوم الوفرة ليكونوا جزءًا من هذا التغيير الكبير.

في الختام ، يتركنا المؤلفان مع حقيقة واحدة:

“أكبر اختراع في تاريخ البشرية لم يكن الكهرباء، ولا الإنترنت، بل الإيمان بأن الإنسان قادر على التغيير.”

وهذا الإيمان هو الذي سيصنع عصر الوفرة… لا في المستقبل البعيد، بل في الحاضر القريب إذا اخترنا أن نؤمن، ونفكر، ونعمل.

Click to rate this post!
[Total: 0 Average: 0]